فصل: قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما بين إعجاز القرآن وأجاب عن شبهات القوم أراد أن يعظم شأن القرآن ويذكر جلالة قدره فقال: {وبالحق أنزلناه} التقديم للتخصيص أي ما أردنا بإنزاله إلا تقرير الحق في مركزه وتمكين الصواب في نصابه. قال جار الله: أي ما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله، وما نزل إلا ملتبسًا بالحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير، أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظ بالرصد من الملائكة وما نزل على الرسول إلا محفوظًا بهم من تخليط الشياطين. وقال آخرون: الحق هو الثابت كما أن الباطل هو الزاهق، ولا ريب أن هذا الكتاب الكريم يشتمل على دلائل التوحيد وصفات الجلال والإكرام، وعلى تعظيم الملائكة وإقرار النبوات وإثبات المعاد، وعلى أصول الأديان والملل التي لا يتطرق إليها النسخ والتبديل، وكل هذه الأمور تدل على المعنى المذكور لأنها مما تبقى ببقاء الدهور. قال أبو علي الفارسي: بالباء في الموضعين بمعنى (مع) كما في قولك: خرج بسلاحه أي أنزل القرآن مع الحق ونزل هو مع الحق. ويحتمل أن تكون الباء الثانية بمعنى (على) كما في قولك نزلت بزيد: فيكون الحق عبارة عن محمد صلى الله عليه وسلم لأن القرآن نزل به أي عليه {وما أرسلناك إلا مبشرًا} بالجنة {ونذيرًا} من النار ليس إليك وراء هذين شيء من إكراه على الدين والإتيان بشيء مما اقترحوه. ثم إن القوم كأنهم من تعنتهم طعنوا في القرآن من جهة أنه لم ينزل دفعة واحدة فأجاب عن شبهتهم بقوله: {وقرآنًا} وهو منصوب بفعل يفسره {فرقناه} أي جعلنا نزوله مفرقًا منجمًا.
وعن ابن عباس أنه قرأه مشددًا وقال: إنه لم ينزل في يومين أو ثلاثة بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة يعني أن فرق بالتخفيف يدل على فصل مقارب. وقال أبو عبيدة: التخفيف أعجب إليّ لأن تفسيره بيناه وليس للتشديد معنى إلا أنه نزل متفرقًا. فالفرق يتضمن التبين ويؤكده ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال: فرقت أفرق بين الكلام وفرقت بين الأجسام. وأقول: إن ابن عباس اعتبر الفصل بين أول نزوله وبين آخره، فرأى التشديد أولى. ولعل المراد الفصول المتقاربة التي فيما بين المدة بدليل قوله: {لتقرأه على الناس على مكث} بضم الميم أي على مهل وتؤدة ولقوله: {ونزلناه تنزيلًا} أي على حسب المصالح والحوادث.
ثم خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمقترحين {آمنوا به أو لا تؤمنوا} وهو أمر وعيد وتهديد وخذلان. قال جار الله: قوله: {إن الذين أوتوا العلم من قبله} إما أن يكون تعليلًا لقل على سبيل التسلية كأنه قيل: تسل عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء الذي قرأوا الكتب من قبل نزول القرآن. قال مجاهد: هم أناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم خروا وسجدوا منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام، وفي قوله: {يخرون للأذقان سجدًا} دون أن يقول: يسجدون مبالغة من وجهين: أحدهما إنه قيد الخرور وهو السقوط بالذقن. فقال الزجاج: لأن الذقن مجتمع اللحيين، وكما يبتدىء الإنسان بالخرور للسجود فأول ما يحاذي به الأرض من وجهه الذقن. قلت: هذا تصحيح للمعنى ولا يظهر منه لتغيير العبارة فائدة. وقال غيره. المراد تعفير اللحية في التراب فإن ذلك غاية الخضوع وإن الإنسان إذا استولى عليه خوف الله تعالى فربما سقط على الأرض مغشيًا عليه. وثانيهما أنه لم يقل: يخرون على الأذقان كما هو ظاهر وإنما قال {للأذقان} لأن اللام للاختصاص فكأنهم خصوا أذقانهم بالخرور، أو خصوا الخرور بأذقانهم. ثم حكى أنهم في سجودهم أنهم يراعون شرائط التنزيه والتعظيم قائلين {سبحان ربنا إن كان وعد ربنا} بإنزال القرآن وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبنا {لمفعولًا} أي منجرًا {وإن} مخففة من الثقيلة ولهذا دخلت اللام في خبر كان، ثم ذكر أنهم كما خروا لأذقانهم في حال كونهم ساجدين فقد خروا لها حال كونهم باكين، ويجوز أن يكون التكرير لأجل الدلالة على تكرير الفعل منهم بدليل قوله: {ويزيدهم} أي القرآن {خشوعًا} لين قلب ورطوبة عين، ثم أرد أن يعلمهم كيفية الخشوع والدعاء فقال: {قل ادعوا} عن ابن عباس: سمعه أبو جهل يقول: يا الله يا رحمن.
فقال: إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهًا آخر. وقيل: أن أهل الكتاب قالوا: إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم فنزلت. قال جار الله: الدعاء بمعنى التسمية لا النداء وهو يتعدى إلى مفعولين. تقول: دعوته زيدًا ثم تترك أحدهما استغناء عنه فتقول: دعوت زيدًا و{أو} للتخيير والمعنى على السبب الأول سموه بهذا الاسم أو بهذا، وعلى السبب الثاني اذكروا إما هذا وإما هذا {أيامًا تدعوا} يعني أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم فالتنوين عوض عن المضاف إليه {وما} صلة زيدت لتأكيد الإبهام. والضمير في {فله} لا يرجع إلى أحد الاسمين ولكن إلى مسماهما، وكان أصل الكلام أن يقال: فهو أي ذلك الاسم حسن فوضع موضعه. قوله: {فله الأسماء الحسنى}. لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان. ومعنى حسن الأسماء استقلالها بنعوت الجلال والإكرام وقد مر في آخر الأعراف.
ثم ذكر كيفية أخرى للدعاء فقال: {ولا تجهر بصلاتك} أي بقراءة صلاتك على حذف المضاف للعلم بأن الجهر والمخافتة من نعوت الصوت لا الصلاة أفعالها فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء، ومنه يقال: خفت صوته خفوتًا إذا انقطع كلامه أو ضعف وسكن، وخفت الزرع إذا ذبل، وخافت الرجل بقراءته إذا لم يبين قراءته برفع الصوت. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته لعله أو من إطلاق الصلاة على بعض أفعالها فهو ألح تأمل. مصححه بالقراءة، فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله إليه {ولا تجهر بصلاتك} فيسمعه المشركون فيسبوا الله عدوًا بغير علم {ولا تخافت بها} فلا تسمع أصحابك {وابتغ بين ذلك} الذ ذكر من الجهر المخافتة {سبيلًا} وسطًا، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالليل دور الصحاغبة فكان أبو بكر يخفي صوته في صلاته ويقول: أناجي ربي وقد علم حاجتي. وكان عمر يرفع صوته ويقول: أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يرفع صوته قليلًا، وأمر عمر أن يخفض قليلًا فنزلت الآية على حسب ذلك. وقيل: معناه ولا تجهر بصلاتك كلها، ولا تخافت بها كلها. وابتغ بين ذلك سبيلًا بأن تجهر بصلاة الليل، وتخافت بصلاة النهار، وعن عائشة وأبي هريرة ومجاهد أن الصلاة ههنا الدعاء. وقد يروى هذا مرفوعًا قال الحسن: لا يرائي بعلانيتها ولا يسيء بسريرتها، وأيضًا في الجهر إسماع غيره الذنوب وهو الموجب للتغيير والتوبيخ، وعلى هذا ذهب قوم إلى أن الآية منسوخة بقوله: {ادعوا ربكم تضرعًا وخفية} [الأعراف: 55] قال جار الله: ابتغاء السبيل مثل لابتغاء الوجه الوسط في القراءة.
ولما أمر أن لا يذكر ولا ينادى إلا بأسمائه الحسنى نبه على كيفية التحميد بقوله: {وقل الحمد لله} الآية قال في الكشاف: كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد؟ وأجاب بأن هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة، فهو الذي يستحق جنس الحمد، وأقول: الولد يتولد من جزء من أجزاء الوالد، فالوالد مركب وكل مركب محدث والمحدث محتاج والمحتاج لا يقدر على كمال الإنعام فلا يستحق كمال الحمد، وأيضًا الولد مبخلة لا يستحق الحمد والشركة في الملك إنما تتصور لمن لا يستقل بالمالكية فيفتقر إلى من يتم بمشاركته أمور مملكته ومصالح تمدنه، وكل من كان كذلك كان عاجزًا بالنظر إلى ذاته، فلا يتم فيضانه فلا يستحق الحمد على الإطلاق، وهكذا حكم من كان له لي من الذل أي اتخذ حبيبًا من أجل ذل به واستفادة لا من عزة وقوة إفاضة، أو الولي بمعنى الناصر أي ناصر من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته. وأيضًا قد يمنعه الشريك من إصابه الخير إلى أوليائه، والذي يكون له ولي من الذل يكون محتاجًا إليه فينعم عليه دون من استغنى عنه. أما إذا كان منزهًا عن الولد وعن الشريك وعن أن يكون له ولي ينصره ويلي أمره كان مستوجبًا لأعظم أنواع الحمد ومستحقًا لأجلّ أقسام الشكر. قال الإمام فخر الدين الرازي: التكبير أنواع منها: تكبير الله في ذاته وهو أن يعتقد أنه واجب الوجود لذاته غني عن كل ما سواه. ومنها تكبيره في صفاته بأن يعتقدها كلها من صفات الجلال والإكرام وفي غاية العظمة ونهاية الكمال وأنها منزهة عن سمات التغير والزوال والحدوث والانتقال. ومنها تكبيره في أفعاله وعند هذا تعود مسألة الجبر والقدر. قال: سمعت أن الأستاذ أبا إسحق الإسفرايني كان جالسًا في دار الصاحب بن عباد فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني. فلما رآه قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء. فقال الأستاذ: سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء. ومنها تكبير الله في أحكامه وهو أن يعتقد أن أحكامه كلها جارية على سنن الصواب وقانون العدالة وقضية الاستقامة. ومنها تكبيره عن هذا التكبير وتعظيمه عن هذا التعظيم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية والله أعلم. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)}.
{قل} أي: لهؤلاء البعداء {لئن اجتمعت الأنس} الذين تعرفونهم وتعرفون ما أوتوا من البلاغة والحكمة والذين لا تعرفونهم {والجنّ} الذين يأتون كهانهم ويعلمونهم ببعض المغيبات عنهم وغيرهم وترك الملائكة لأنهم لا عهد لهم بشيء من التصدي ولأنهم كانوا وسائط {على أن يأتوا بمثل هذا القرآن} في البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى {لا يأتون بمثله} أي: لا يقدرون على ذلك فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق ولو كان مخلوقًا لأتوا بمثله.
تنبيه:
في قوله تعالى: لا يأتون بمثله قولان أظهرهما أنه جواب للقسم الموطأ له باللام والثاني: أنه جواب لشرط واعتذروا عن رفعه بأنّ الشرط ماض فهو كقوله:
وإن أتاه خليل، أي: فقير- يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم لأنّ الشرط وقع ماضيًا وناقشه أبو حيان بأنّ هذا ليس مذهب سيبويه ولا الكوفيين والمبرد لأنّ مذهب سيبويه في مثله أنّ النية به التقديم ومذهب الكوفيين والمبرد أنه على حذف الفاء وهذا مذهب ثالث قال به بعض الناس: {ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا} أي: معينًا بضم أقوى ما فيه إلى أقوى ما في صاحبه. تنبيه: قد تقدّم في سورة البقرة أنّ الله تعالى قال: {فأتوا بسورة من مثله} [البقرة] وقدّمنا الكلام على ذلك وفي وجه كون القرآن معجزًا قولان أحدهما: أنه معجز في نفسه. والثاني: أنه ليس في نفسه معجزًا إلا أنه تعالى لما صرف دواعيهم عن الإتيان بمعارضته وكانت الدواعي متوفرة على الإتيان بهذه المعارضة مع التقديرات المذكورة يكون نقضًا للعادة فيكون معجزًا والقول الأوّل أظهر.
{ولقد صرّفنا} أي: بينا بوجوه مختلفة زيادة في التقرير والبيان {للناس في هذا القرآن من كل مثل} أي: من كل معنى هو كالمثل في غرابته ووقوعه متوقعًا في الأنفس. وقيل معناه من كل وجه من العبر والأحكام والوعد والوعيد والقصص وغيرها. وقيل صفة لمحذوف، أي: مثلًا من جنس كل مثل ليتعظوا {فأبى أكثر الناس} وهم من هم في صورة الناس ككفار قريش وقد سلبوا معانيهم {إلا كفورًا} أي: جحودًا. فإن قيل: كيف جاز {فأبى أكثر الناس إلا كفورًا} ولم يجز ضربت إلا زيدًا؟
أجيب: بأنّ أبى متأول بالنفي كأنه قيل فلم يرضوا إلا كفورًا.
ولما تبين بالدليل إعجاز القرآن على وفق دعوى محمد صلى الله عليه وسلم ولزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعللون باقتراح الآيات فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة وذكروا من ذلك ستة أنواع من المعجزات أوّلها:
{وقالوا} أي: كفار قريش ومن والاهم {لن نؤمن لك حتى تفجر} أي: تفجيرًا عظيمًا {لنا من الأرض ينبوعًا} أي: عينًا غزيرة الماء من شأنها أن تنبع بالماء ولا ينضب ماؤها. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم مخففة والباقون بضم التاء وفتح الياء وكسر الجيم المشدّدة ثانيها قولهم:
{أو تكون لك} أنت وحدك {جنة من نخيل وعنب} أي: وأشجار عنب عبر عنه بالثمرة لأنّ الانتفاع منه بغيرها قليل {فتفجّر الأنهار} الجارية {خلالها} أي: وسطها {تفجيرًا} أي: تشقيقًا والفجر شق الظلام عن عمود الصبح والفجور شق جلباب الحياء بما يخرج إلى الفساد ثالثها قولهم:
{أو تسقط السماء} أي: نفسها {كما زعمت} فيما تتوعدنا به {علينا كسفًا} أي: قطعًا جمع كسفة وهي القطعة. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بنصب السين مثل قطعة وقطع وسدرة وسدر، والباقون بسكونها مثل دمنة ودمن وسدرة وسدر وهو نصب على الحال في القراءتين جميعًا كأنه قيل أو تسقط السماء علينا مقطعة. رابعها: قولهم: {أو تأتي} معك {بالله} أي: الملك الأعظم {والملائكة قبيلًا} أي: عيانًا ومقابلة ننظر إليه لا يخفى علينا شيء منه. وقال الضحاك: هو جمع قبيلة، أي: أصناف الملائكة قبيلة قبيلة. قال ابن هانئ كفيلًا، أي: يكفلون بما تقول. خامسها: قولهم:
{أو يكون لك} أي: خاصًا بك {بيت من زخرف} أي: ذهب كامل الحسن والزينة. سادسها: قولهم: {أو ترقى} أي: تصعد {في السماء} درجة درجة ونحن ننظر إليك صاعدًا {ولن نؤمن} أي: نصدق مذعنين {لرقيك} أي: أصلًا {حتى تنزل} وحققوا معنى كونه من السماء بقولهم {علينا كتابًا} ومعنى كونه في رق أو نحوه بقولهم {نقرؤه} يأمرنا فيه بأتباعك. روى عكرمة عن ابن عباس أنّ عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا البحتري بن هشام وعبد الله بن أمية وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام والعاص بن وائل ونبهانا ومنبهًا ابني الحجاج اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه أنّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك يكلمونك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعًا وهو يظنّ أنهم بدا لهم في أمره بداء وكان عليهم حريصًا يحب رشدهم حتى جلس إليهم فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليم لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم أنّ رجلًا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعيبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالًا جعلنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد الشرف سودناك علينا وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيا تراه قد غلب عليك لا تستطيع ردّه بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك وكانوا يسمون التابع من الجنّ الرئي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم ولا للشرف عليكم ولا للملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولًا وأنزل عليّ كتابًا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردّوه إليّ أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم». فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد أضيق بلادًا وأشدّ عيشًا منا فسل لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت ويبسط لنا بلادنا ويفجر فيها أنهارًا كأنهار الشأم والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخًا صدوقًا فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدّقوك صدّقناك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهذا بعثت فقد بلغتكم ما أرسلت به وإن تقبلوه فهو حظكم وإن تردّوه أصبر لأمر الله. قالوا: فإن لم تفعل فسل ربك أن يبعث ملكًا يصدّقك وسله أن يجعل لك جنانًا وقصورًا وكنوزًا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك فإنا نقوم بالأسواق ونلتمس المعاش كما تلتمسه فقال صلى الله عليه وسلم ما بعثت بهذا ولكنّ الله بعثني بشيرًا ونذيرًا. قالوا: فأسقط السماء كما زعمت إنّ ربك إن شاء فعل؟ فقال: ذاك إلى الله إن شاء فعل ذلك بكم. فقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلًا، فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه عبد الله بن أمية وهو ابن عاتكة بنت عبد المطلب، وقال له: عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك أن تجعل ما تخوّفهم به من العذاب فلم تفعل فوالله لا أؤمن بك أبدًا حتى تتخذ إلى السماء سلمًا ترقى به، وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدّقك فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينًا لما رأى من مباعدتهم فأنزل الله هذه الآية وفيها إشارة إلى أنه ليس من شرط كونه نبيًا صادقًا تواتر المعجزات الكثيرة وتواليها إذ لو فتح هذا الباب لزم أن لا ينتهي الأمر فيه إلى مقطع وكلما أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمعجز اقترحوا عليه بمعجز آخر ولا ينتهي الأمر فيه إلى حدّ ينقطع عنه عناد المعاندين وتعنت الجاهلين مع أنه صلى الله عليه وسلم أعطى من الآيات والمعجزات ما أغنى عن هذا كله مثل القرآن وانشقاق القمر وتفجير العيون من بين الأصابع وما أشبه ذلك.